حينما تلج إلى قلب المكان، تسمع صوت أذان المساجد وقرع أجراس الكنائس، أو حفيف أوراق أشجار الزيتون القديمة، وحجارة تحت الأقدام، مبعثرة من أطراف قبور دفن أصحابها بحكايات كثيرة في المكان.
وبين الحقائق الكثيرة لوقف عائلة الديجاني، ترى أقدام رجال سود، يسيرون بين الحقيقة والحقيقة متطفلين بكذبة اسمها (إسرائيل)، في تحد سفيه للحجارة التي لو نطقت لقالت مستنكرة من أنتم؟!
وحينما تلج إلى قلب سناء الديجاني ستشاهد الحقيقة الكاملة بشواهدها، وأوراقها، وأرقامها، تحملها في جيب ثوبها وفي حقيبة كتفها، وتخفيها تحت وسادتها قبل النوم.
سناء الديجاني سيدة مقدسية حملت على أكتافها أمانة عائلة بأكملها، فرقها الاحتلال في بقاع الأرض، ولم يبق من العائلة سوى 3000 فرد في مدينة القدس.
“بورقة من السلطان سليمان القانوني أوكل الجد الأكبر لعائلة الديجاني بإدارة وقف النبي داوود، وأعطى العائلة شرف إدارة الوقف لخمسمائة عام متواصلة”، هذا ما قالته سناء الديجاني عن أصل القصة التاريخية.
الديجاني ورثت كل ذلك الأسى، جدران بيوت الأجداد التي كانت منتصبة إلى جانب الوقف الذي يتوسطه مسجد مقام النبي داوود، أرث أثري قديم، وحجارته منحوتة بذات الدرجة من القدم.
” اسم الله منحوت على الحيطان، لا يستطيعون إخفاء الحقيقة”، أكملت الديجاني، هو أرث عائلتي الذي أشعر كلما مررت به بأني أتنفس هواء من الجنة”.
ولكن الجدران سلبت، والحقيقة باقية، تحملها سناء التي تعقد كل يوم ورشات ورحلات للتوعية بإرث عائلة الديجاني، وكيف أدارت العائلة هذا الوقف لمئات السنين قبل أن يسلبه الاحتلال، ويسكنه المستوطنون.
تشير إلى الأبواب المغلقة وتعرف الزوار والسياح وتصعد إلى القباب القديمة، وتوجه الرواية نحو حقيقتها.
سناء الديجاني تعمل مدرسة للتكنلوجيا في مدرسة الأوقاف الإسلامية بالقدس، وتأخذها خطواتها الملتاعة دوما إلى حيث أرض ممتدة، عشرات من الدونمات تحوي وقف العائلة الأثري وهو دير النبي داوود، وأراض من الزيتون مقامة على جبل الدجاني، أو ما يسمى جبل صهيون، وكلها أوقفت لصالح العائلات الفقيرة في المدينة المقدسة.
ولم يكن الوقف بالنسبة لسناء مسجد النبي داوود فقط، وإنما هو بيت جدتها الذي يجاور المسجد، والذي لا يزال محتفظا بروائح طبخها القديمة، وباب عمها المجاور، وأبواب الجيران التي أغلقت على عائلات لمستوطنين احتلوا قصص الجدات ومطابخهن.
وتتذكر سناء: “كنت صغيرة حينما حملت على كتفي عبء نقل الحقيقة، لأخبر به العالم، وسأظل أدور بين زوار القدس لأخبرهم بأن هناك وقفا لعائلة الديجاني.
كالذي سُرق منه ابنه ولا زال يمر كل صباح بجانب بيت السارق ليراه من بعيد ولا يجرؤ على احتضانه، هكذا هي سناء، تمر هناك، فتزيل الأشواك عن القبور المهدمة، وتعيد بناء الشواهد، وتقاتل الجار المستوطن الذي كسرها، وتجادل في البلديات والمحاكم لتحافظ على قبور أجدادها.
الحرب التي تواجهها إدارة أوقاف القدس حرب كبيرة، وسناء جندي في تلك الحرب، حولت صفحتها إلى مرجع متكامل، مليء بالصور والفيديوهات، والحقائق التي تسعى إلى تخليدها عن إرث عائلتها المسلوب.
حوّل الاحتلال وقف عائلة الديجاني إلى مدرسة دينية (إسرائيلية) دون أن يقوى على طمس الحكاية المنحوتة على الجدران، فالمكان محمي من الأمم المتحدة، كإرث أثري غير قابل للهدم أو التغيير.
ولكن سناء الديجاني لا زالت تذهب هناك، تقفز بين الغرف، وتصعد الأدراج المتهالكة، وتصور القباب، وتحكي للرواد قصة صبر الدين الديجاني الذي كان مسؤولا عن المقام حينما دخل جنود المحتل لطرده، ورفض الخروج وقد اختبأ مع زوجته وأبنائه في المقام.
لم يكن مسموحا لأحد من الطوائف الدينية الأخرى بالدخول الى المسجد في ذلك الوقت، إلا بمواعيد محددة احتراما للمكان الأثري الإسلامي، كما تقول الديجاني، حتى جاء المحتل، ودنس كل الأمكنة.
تضيف: “لقد تعرضت العائلة لمؤامرة كبرى، لإنهاء فكرة الوقف الإسلامي فخلال عشرين عاما من الصراع والمشاكل والانقسام داخل القدس قبل سقوطها، كانت هناك أطراف تحيك ببساطة لتنفيذ المؤامرة ومصادرة وقف العائلة.
وتنظر سناء إلى قصة عائلتها بحسرة، وتتخيل جمال الدين الديجاني الجد الأخير للعائلة وهو يسلم مفاتيح الوقف، وتعيد القصة على مسمع ابنها محمد ابن الثالثة عشر، حتى تظل مخلده في الذاكرة، لأن الحق لا يضيع إذا كان وراءه مطالب.
وفي حي عائلة الديجاني المسلوب يوجد عدد من المباني الوقفية القائمة على مئات الدونمات أهمها مسجد النبي داوود ولا زالت هناك عدة مبان قائمة حتى الآن كمنزل موسى أبو السعود الدجاني، وعِليّة صهيون وعدة زوايا، ومقبرة ومقام للنبي داود ومسجد.